كان أحمد وصديقه عامر يشاهدان نشرة الأخبار في التلفزيون وفي أحد فقرات النشرة قدم مراسل أحد الشبكات الإخبارية نبأً يتحدث فيه عن دقة صواريخ باتريوت واستدل على صحة النبأ بصورة لخط أبيض من الدخان ينطلق من الأرض ثم يتحول فجأة إلى كتلة بيضاء متناثرة ويرافق هذا التحول صوت انفجار وذكر المراسل أن هذه صورة لصاروخ باتريوت وهو يعترض صاروخاً باليستياً. التفت أحمد إلى عامر وقال له: “أرأيت كم هو دقيق صاروخ باتريوت؟” أجاب عامر: “ما أدرانا أن الصورة التي شاهدناها هي لصاروخ باتريوت وهو يعترض صاروخاً آخر؟ لماذا لا تكون مجرد صورة لصاروخ ينفجر في السماء فنحن لم نشاهد إلا خطاً أبيض انتهى بانفجار؟ وحتى لو كانت الصورة صحيحة فهي لا تدل على دقة صواريخ باتريوت لأننا لا نعرف نسبة الصواريخ التي يخطئها باتريوت إلى نسبة الصواريخ التي يصيبها”. إن ما قام به عامر هو التفكير الناقد أي التحليل المنطقي لكل ما يقرؤه الإنسان أو يشاهده أو يسمعه. إن التفكير الناقد لا يعني التقاط عثرات الآخرين وتصيد أخطائهم كما يعتقد البعض.. إنه التفكير في الحجج التي يعرضها الآخرون واختبار مدى منطقية هذه الحجج وكذلك التفكير في صحة القرارات التي يتخذها الآخرون أو نتخذها بأنفسنا.التفكير الناقد هو ببساطة إعمال العقل بدلاً من تعطيله وبما أن العقل هو الذي يميز الإنسان عن باقي المخلوقات فإن الإنسان الذي يمارس التفكير الناقد إنما يمارس إنسانيته وعندما يغيب التفكير الناقد عن ثقافة الأمة ويتعود أفرادها على التلقي والتكرار من دون نقد أو مراجعة تدخل الأمة في عصور الظلام وتتخلف عن ركب الحضارة الإنسانية. إننا نعلِّم أولادنا في المدارس الكتابة والقراءة والحفظ لكننا لا نعلمهم التفكير إذ لا توجد في مئات الحصص الدراسية التي يتلقاها الطلاب في تعليمهم المدرسي والجامعي حصة واحدة عن مهارات التفكير! وقد ذكر لي من أثق به أنه كان يحضر درساً في الفقه فلما سأل أحد الطلاب المدرس عن الدليل الشرعي أو المنطقي لأحد الأحكام الفقهية وبخه المدرس بشدة قائلاً: “أنت مقلِّدٌ ولست مجتهداً والمقلد لا يسأل عن الدليل!”.

إن التفكير الناقد يُستخدم في مجالين رئيسيين: أولاً، في تقييم الحجج التي يقدمها لنا الآخرون وفي سبك الحجج الخاصة بنا. وثانياً، في تقييم القرارات التي يتخذها الآخرون وفي اتخاذ القرارات الخاصة بنا . إن التفكير الناقد مهارة يمكن اكتسابها كأي مهارة أخرى وباتباع الخطوات التي سأذكرها فيما يلي يستطيع الإنسان أن يطبق التفكير الناقد على أي موضوع، وكما هي المهارات دائماً فإن إتباع هذه الخطوات في الفترة الأولى سيكون فيه شيء من الصعوبة والتكلف وقد يغفل المرء هذه الخطوة أو تلك، لكن الاستمرار في تطبيق التفكير الناقد سيحوله إلى سجيِّة يمارسها المرء بشكل عفوي.

أولاً: استخدام التفكير الناقد في تقييم صحة الحجج التي يقدمها لنا الآخرون وفي سبك الحجج الخاصة بنا.

  • تحديد السبب والنتيجة. تتكون الحجة (Argument) من سبب        (Reason) ونتيجة (Conclusion) والخطوة الأولى في التفكير الناقد هي تحديد كل من السبب والنتيجة، ففي المثال الذي ذكرناه قبل قليل كان السبب هو صورة الخط الأبيض الذي انتهى بانفجار وكانت النتيجة هي أن صواريخ باتريوت دقيقة في إصابة أهدافها.
  • تحديد مصداقية السبب. ما الذي يجعلنا نصدق صحة السبب؟ ما الذي يجعلنا مثلاً نصدق أن الصورة المعروضة في التلفزيون هي فعلاً لصاروخ باتريوت وهو يعترض صاروخاً آخر؟ وهنا يجب أن ننتبه إلى أن المصداقية غير الحقيقة فقد يكون خبراً ما ذا مصداقية عالية ومع ذلك يتبين لنا أنه مختلف عن الحقيقة ومع ذلك فالتحري عن المصداقية يساعدنا في الحكم الصحيح على الأمور.
  • هل يوجد رابط منطقي بين السبب والنتيجة؟ مثلاً هل صورة الخط الأبيض الذي انتهى بانفجار تعني أن صاروخ باتريوت دقيق في إصابة هدفه؟
  • هل هناك معلومات أخرى تقوي الحجة أو تضعفها؟ مثلاً هل توجد تقارير أو دراسات أخرى ذات مصداقية تبين مدى دقة صاروخ باتريوت في إصابة أهدافه؟
  • تعريف المصلحات والعبارات الواردة في الحجة؟ قد نسمع أو نقرأ العبارة التالية “العولمة تؤدي إلى التقارب بين الشعوب” أو “الاختلاط يسبب فساد الأخلاق” إن مناقشة أيٍّ من هاتين الفكرتين يجب أن تبدأ بتحديد المقصود من مصطلح (العولمة) أو مصطلح (الاختلاط).
  • إظهار الافتراضات الخفية واختبار صحتها. قد تحمل الحجج التي يعرضها الآخرون افتراضات خفية وقد تبدو هذه الحجج قوية لأول وهلة ولكن عندما نظهر الافتراضات الخفية الكامنة فيها ونبين خطأ هذه الافتراضات نجد أنها حجج واهية. لنأخذ المثال التالي:  رسب عدنان في مادة الرياضيات فاعترض على مدرس المادة قائلاً “هذا الامتحان غير عادل فقد خصَّصتُ ثلاثين ساعة لدراسة الرياضيات ولم أنجح فيه” إن هذه الحجة غير منطقية لأنها تقوم على افتراض خفيٍّ مفاده أن دراسة ثلاثين ساعة من مادة الرياضيات تعني أن الطالب قد أتقنها وأصبح مؤهلاً للنجاح فيها وهو أمر لا ينطبق على كل الطلاب.
  • التحقق من مشاعرنا تجاه الإدعاء. إن الإنسان يميل إلى تصديق الأمور التي يحبُّ تصديقها. فإذا كنت تكره إنساناً معيناً ستميل إلى تصديق الأخبار السلبية المتعلقة به، إن إدراك الإنسان لهذا الميل يساعده على تحري الموضوعية وتحييد مشاعره في أثناء حكمه على الأمور.

إن استخدام الخطوات السبعة السابقة لا يساعدنا على التفكير الناقد فيما يُعرض علينا من حجج وحسب بل يساعدنا أيضاً على سبك الحجج التي نعرضها على الآخرين فعندما تحوي حججنا على أجوبة للأسئلة السبعة السابقة تكون هذه الحجج قوية ومتماسكة.

ثانياً: استخدام التفكير الناقد في تقييم القرارات التي يتخذها الآخرون وفي اتخاذ القرارات الخاصة بنا. 

إن مراعاة النقاط التالية تساعدنا على تقييم قرارات الآخرين واتخاذ القرارات الصحيحة:

  1. ليكن الهدف من القرار واضحاً لديك. فعندما تريد اختيار جامعة للتسجيل فيها تعتمد صحة قرارك على الهدف من التسجيل هل هو الحصول على شهادة ذات قيمة عالية أم التخرج بأسرع وقت ممكن أم مجرد التسجيل لتأجيل الخدمة العسكرية وهكذا…
  2. تأكد من أنك أخذت بعين الاعتبار البدائل الأخرى. من الأخطاء الشائعة في اتخاذ القرار اعتماد أول فكرة تخطر بالبال وعدم التفكير ببدائل أخرى. تبدو هذه النصيحة سهلة لكن معظم الناس لا يطبقونها، لذلك لا بد من بعض الممارسة للتمكن من هذه العادة الجديدة.
  3. فكر بالعواقب المحتملة للبدائل المختلفة. من الشائع جداً أن يقول الناس عن قرار اتخذوه ( لم أفكر بما كان يمكن أن يحدث ). لذلك من المهم جداً أن لا نرتكب هذا الخطأ وأن نفكر بالعواقب المحتملة – الجيد منها والسيئ – الناجمة عن قرار ما. على سبيل المثال، افترض أنك تفكر بالجامعة التي تريد الدراسة فيها، إذا لم تراجع المقررات التعليمية للجامعات المرشحة وإذا لم تقم بزيارة هذه الجامعات قد تجد نفسك تدرس مقرراً تعليمياً لا تريده أو في مكان لا تحبه أو مع أشخاص لا تود أن تكون معهم. إن مراجعة هذه العواقب المحتملة مسبقاً قد يجنبك الكثير من الإحباط وخيبة الأمل وربما الفشل.
  4. فكر إلى أي مدى هذه العواقب مرجحة وإلى أي مدى هي قيّمة. من الشائع جداً أن يقول لك الناس يجب أن تفعل كذا وإلا سيحدث لك كذا. هم يتحدثون هنا عن عاقبة محتملة للقيام بفعل ما لكنهم لا يقدرون إلى أي مدى يُرجح حدوث هذه العواقب وما مدى خطورتها مع أن هذين الأمرين مهمين للغاية. لنأخذ قرار شراء ورقة يانصيب على سبيل المثال؛ صحيح تماماً أنك إذا اشتريت بطاقة اليانصيب الوطني يمكن أن تربح و قد يدر ذلك عليك ملايين الليرات وهو أمر مرغوب جداً من قبل معظم الناس. ولكن ما هي فرصتك ؟ إلى أ ي مدى يُرجّح فوزك في اليانصيب؟ إذا اشتريت بطاقة واحدة فإن فرصتك في الفوز في اليانصيب الوطني هي حوالي 1 إلى 10,000,000 إذن، نعم يمكن أن تربح ولكن ذلك من غير المرجح على الإطلاق (إحصائياً من المرجح أكثر بكثير أن تموت بحادث سيارة!) هذا المثال يوضح الفرق بين كون عاقبة محتملة لفعل ما مرجّحة وكونها قيّمة ويوضح أهمية التفريق بين هذين الأمرين.
  5. قدر أيَّ البدائل هي الأفضل على ضوء عواقب هذه البدائل. عندما تأخذ بعين الاعتبار عدداً معقولاً من الخيارات وتحدد عواقب هذه الخيارات – احتمال حدوثها وإلى أي مدى هي قيّمة أو مرغوب فيها – عندها يمكنك اتخاذ القرار الأفضل.
  6. خذ بعين الاعتبار الالتزامات الأخلاقية. إن البعض قد يرفضون مجرد التفكير في مثال ورقة اليانصيب لأنهم يعتبرون لعب القمار أمراً لا أخلاقياً. في بعض الأحيان نحتاج إلى تقديم التزام أخلاقي معين على التزام آخر فإذا أخبرك صديقك مثلاً أنه يتعاطى المخدرات وطلب منك أن يبقى الأمر سراً بينكما ووجدت أن إخبار جهة ما سيساعده على التخلص من الإدمان عندها يصبح الحفاظ على سلامة صديقك أولى من الحفاظ على السر الذي أودعك إياه مع أن كليهما ملزمٌ من الناحية الأخلاقية.

إن تمرير أي قرار من خلال هذه الخطوات الست لا يضمن لك أن يكون قراراً صحيحاً لكنه بالتأكيد سيكون أفضل بكثير من القرار الذي ستقبل به أو القرار الذي ستتخذه من دون المرور بها.

ياسر العيتي     

Leave a reply

منظمة غير ربحية لتطوير المجتمع وبناء القدرات مسجلة في تركيا، مع مقرها الرئيسي في اسطنبول، تأسست في عام 2014 وأعلنت رسميًا في 22 يناير 2015 برقم التسجيل 1120.

الدعم التقني