بدأ احتكاكي بمواضيع التنمية البشرية في ربيع 2003 عندما طلب مني أحد الأصدقاء الاطلاع على كتاب (الذكاء العاطفي) لدانييل غولمان – وكان بالانكليزية وقتها – والخروج منه بدورة أقدمها للعاملين في مؤسسته لأنه يجد صعوبة في التعامل معهم وخصوصاً أن معظمهم من الرسامين، والرسام مزاجي بطبيعته، فقد كانت مؤسسة صديقي من المؤسسات العربية الرائدة في صناعة أفلام الكرتون وكان مقرها في دمشق. حولت الكتاب إلى دورة (الذكاء العاطفي في العمل) وأصبحت أقدمها في الشركات الخاصة ثم عملت منها نموذجاً لعامة الناس وأصبحت أقدمها في المعاهد الخاصة. في ذلك الوقت أقيمت في دمشق أول دورة في (البرمجة اللغوية العصبية) لفت نظري أن المقدم كان يحدثنا عن طرق تجعل الإنسان قادراً وبسرعة على التحكم بنفسه وفي وقت الراحة كان يدخن بعيداً عنا ولما سأله أحد الإخوة لماذا لا تطبق هذه الطرق على نفسك لتتوقف عن التدخين فكان جوابه غريباً وغير مقنع. ما شجعني على تقديم الدورات والمحاضرات في مجال التنمية البشرية في دمشق وبقية المحافظات في الفترة الممتدة من 2003 إلى 2007 هو أنني وجدته أفضل مجال متاح لنشر أفكاري حول قيمة الإنسان وكرامته في ظل الحصار الذي كان يفرضه النظام على أي نشاط فكري أو سياسي وما زلت أتذكر يوم كنت أقدم محاضرة عن (العادة الثامنة) في إدلب في نقابة المهندسين عندما قاطعتني سيدة وقالت بانفعال (دكتور: كلام جميل ولكنه يحتاج إلى حرية) سررت كثيراً لأن هذا من الأمور التي كنت أريد إيصالها إلى الناس. أعود إلى موضوع التنمية البشرية، ما لها وما عليها، بعد حضور وتقديم الكثير من الدورات وقراءة الكثير من الكتب تحت عناوين شتى خلصت إلى النتائج التالية:

  • بحكم خلفيتي الطبية ودراستي لعلم الأعصاب ومتابعتي – كهواية – للجديد في هذه الأمور، فإن التغيرات المطلوب إحداثها في دماغ الإنسان لاكتساب عادات جديدة تأخذ وقتاً وجهداً ولا يمكن أن تتم في وقت قصير وجهد قليل كما يوحي بذلك بعض العاملين في مجال التنمية البشرية.
  • كثير من الأمور التي تقدم كحقائق لا تستند إلى أي دراسات تجريبية أو إحصائية، بل إن بعض الدراسات أثبتت نتائج متفاوتة لا تتفق مع ما يذكر عن هذه المواضيع كحقائق دامغة مثل علاقة حركة العينين بالأنظمة التمثيلية.
  • صحيح أنني ألفت كتاباً سميته (ما فوق الذكاء العاطفي – حلاوة الإيمان) وحاولت فيه ربط مكونات الذكاء العاطفي بالإسلام وما زلت أعتبر الكتاب مفيداً إلا أنني أعتقد اليوم أننا بحاجة إلى طرق هذه العلوم انطلاقاً من مرجعيتنا الإسلامية أولاً وأن تكون لنا كمسلمين أبحاثنا وتعريفاتنا ومصطلحاتنا ودراساتنا الخاصة بهذا الأمر، وهذا الأمر يتطلب إبداعاً وتأصيلاً وجهداً أكبر بكثير من مجرد إيراد مفهوم ما من كتب الغربيين ثم وضع ما يقابله في ديننا.
  • كأي مجال مهني، دخل في مجال التنمية البشرية من لا يحملون الكثير من العلم وساعد على ذلك اعتبار (شهادة الحضور) التي تمنح في هذه الدورات كشهادة علمية واطلاق اسم مدرب على كل من يحضر عدة دورات ويأخذ شهادات الحضور تلك بغض النظر عن قدراته، ساعد ذلك على تشويه مفهوم التنمية البشرية وجعل الكثيرين يشككون بفائدتها جملة وتفصيلاً.
  • بعض من يحضرون هذه الدورات، ممن لم تتعمق تجربتهم في الحياة بعد، يطبقون بعض التقنيات التي تعلمها الدورات بسطحية، فيضيفون التكلف والتصنع إلى حياتهم، ويزيدونها تعقيداً.
    الخلاصة، لا يجوز أن نتعامل مع هذه العلوم بانبهار يجعلنا نأخذ كل ما فيها دون تمحيص، ولا أن نعرض عنها كلية، التعامل معها كأي مجال آخر يجب أن يتم بعين ناقدة، ويفيد هنا الإطلاع على علوم التفكير والتفكير الناقد التي تعلّم معايير تصديق المعطيات والفرق بين الآراء والحقائق وكيفية ربط الأسباب بالنتائج، ولا يجب أن يغيب عن أذهاننا أن صقل النفوس والعقول عملية مستمرة تحتاج إلى جهد دائم ولا تتم على مقاعد الدرس وإنما في ميادين الحياة.

ياسر العيتي

Leave a reply

منظمة غير ربحية لتطوير المجتمع وبناء القدرات مسجلة في تركيا، مع مقرها الرئيسي في اسطنبول، تأسست في عام 2014 وأعلنت رسميًا في 22 يناير 2015 برقم التسجيل 1120.

الدعم التقني