يعرف العاملون في مجال التنمية البشرية أن أهم الشروط التي تصنع الإنسان السوي نفسياً القادر على التعامل الإيجابي مع نفسه والآخرين هو أن يتمتع هذا الإنسان بتقدير عالٍ للذات high self esteem
وأن تقدير الذات هو الذي يؤسس لعلاقات متوازنة في المجتمع تقوم على الحوار والاحترام المتبادل.
إن أهم العوامل التي ترفع من تقدير الإنسان لذاته هو وجوده في مجتمع تظلله ثقافة تحترم كرامة الإنسان وحياته وحقوقه وحريته ووجود قوانين ترسخ هذه الثقافة وتحميها.
عندما يرتفع تقدير الإنسان لذاته يصبح مواطناً صالحاً لأن تقديره لذاته سيمنعه من مخالفة القانون ومن السكوت على الخطأ وسيمنعه من الإساءة إلى الآخرين أو إيذائهم وهذا هو الإنسان الذي يبني الحضارة ويشكل لبنة الدول القوية المستقرة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
لا أريد أن أقلل من الأثر الإيجابي الذي يحدثه العاملون في التنمية البشرية في المؤسسات والمجتمعات التي تفتقر إلى القوانين والممارسات التي تحترم الإنسان ولكنني أقول أن كثيراً من جهود هؤلاء ستذهب أدراج الرياح ما لم توجد تلك القوانين والممارسات التي تحترم كرامة الإنسان وحياته وحقوقه وحريته.
ماذا يحدث في مجتمع تعقد فيه مئات الدورات عن الثقة بالنفس وتقدير الذات إذا كان من يحضرون هذه الدورات محرومين من حقوقهم الإنسانية الأساسية كحقهم في التعبير مثلاً! ماذا يحدث في مؤسسة يوفر مديرها لكل موظف عشرة دورات عن الثقة بالنفس وتقدير الذات إذا كان هذا المدير يعامل الموظفين كأشياء وليس كبشر لهم مشاعرهم واحتياجاتهم؟ هل نتوقع أن تزيد هذه الدورات من ثقة الموظفين بأنفسهم أو من تقديرهم لذواتهم؟ دورات كهذه في مؤسسة يقودها شخص من هذا النوع سترسخ حالة الانفصام بين القول و الفعل في المؤسسة وستزيد من شعور الموظفين بالتناقض بين ما يتعلمونه وما يطبقونه وهذا الجو المشحون بالكذب والتناقض سيشد المؤسسة إلى الوراء بدلاً من أن يدفعها إلى الأمام.
تعتبر سلسلة فنادق كارلتون – كرلتز من أنجح الفنادق في العالم وعندما تحرى ستيفن كوفي مؤلف كتاب “العادات السبع للأشخاص ذوي الفعالية العالية” عن سر نجاح هذه المؤسسة وجد السر في الشعار الذي اتخذته لنفسها وهو” نحن سيدات وسادة نخدم سيدات وسادة” و قد تأكد كوفي بنفسه من أن تلك المؤسسة تعيش هذا الشعار فعلياً ولا تعلقه على الجدران وحسب، فكل عامل في هذه الفنادق يشعر بأنه لا يقل قيمة عن الأشخاص الذين يخدمهم وهذا الشعور العالي بتقدير الذات جعل ولاء الموظفين لهذه المؤسسة و تفانيهم في العمل لإنجاحها في أعلى المستويات.
ما ينطبق على المؤسسة ينطبق على المجتمع بأسره، وإذا أردنا أن نطوي المسافات ونختصر الزمان ونحقق أفضل النتائج في بناء الإنسان بأقل كلفة وأقصر مدة فعلينا أن نطالب جدياً بالقوانين والممارسات التي تحترم الإنسان. عندما كنت في بريطانيا قامت الدنيا ولم تقعد عندما اعتدى رجال الشرطة على أحد المواطنين، لم يتم تحويل هذا الاعتداء إلى دراما فكاهية ولا أستطيع أن أتخيل بريطاني واحد يمكن أن يضحك لرؤية دراما يظهر فيها شرطي يتجاوز صلاحياته ويعتدي على أحد المواطنين! بل إن ما حدث هو أن هذا الاعتداء أصبح الشغل الشاغل للصحافة ولم تهدأ القصة إلا بعد اعتذارات ومراجعات لصلاحيات الشرطة وإحالة المخالفين إلى القضاء. أعتقد أن الطريقة التي تعامل بها المجتمع البريطاني مع هذه القضية بإعلامه ومسئوليه ومفكريه رفعت من شعور كل مواطن بريطاني بتقديره لذاته أكثر مما تفعله ألف محاضرة أو دورة تدريبية عن تقدير الذات تقام في مجتمع يعتبر الاعتداء على حقوق الناس وكرامتهم أمراً طبيعياً بل يحول أشكال هذا الاعتداء إلى مادة تلفزيونية للضحك والفكاهة !!
ياسر العيتي
2